بدأت معاناة عمال شركة “سيكوم” بمدينة مكناس، إثر تغييرات مفاجئة في سياسات الشركة أربكت أوضاعهم المهنية والمعيشية، خصوصا عقب عملية تفويت للشركة إلى مشغل جديد، مما تسبب في تفاقم أزمتهم، ليفاجأ العمال أغلبهم من النساء بإغلاق المصنع نهائيًا سنة 2021، في خطوة شكلت بالنسبة لهم أكثر من مجرد خسارة اقتصادية، بل لحظة فاصلة قلبت مسار حياتهم.
احتجاجات واعتصامات في الشارع
منذ أكثر من تسعة أشهر من الآن، تواصل عاملات وعمال “سيكوم”، المتخصصة في صناعة النسيج، اعتصامًا مفتوحًا أمام فندق الريف بمكناس، المملوك لأرباب العمل، في مشهدٍ أصبح رمزًا للصمود والإصرار، هذا الاعتصام ليس سوى امتدادا لنضال طويل بدأ منذ 2017 عقب الإغلاق المفاجئ للمصنع، وتحول لاحقًا إلى مواجهة مباشرة مع الإدارة الجديدة المالكة و المشغل القديم.
“تعرضنا للنصب والاحتيال بالقانون”، بهذه العبارة يلخص الحسن الحسيني، أحد العمال المعتصمين، ما يعتبره خدعة ممنهجة أوقعت مئات العاملين في فخ التهميش والتشريد، حيث تعود تفاصيل القصة إلى عام 2013، حين أقدم أرباب شركة “سيكوم” بمدينة مكناس على بيع العقار الذي يحتضن المعمل، وتبلغ مساحته نحو 5 هكتارات، إلى أحد الشركاء، وهو شقيق الرئيس المدير العام. غير أن المفارقة، كما يروي العمال، أن الشركة نفسها واصلت استغلال العقار بعد بيعه، لكن هذه المرة مقابل سومة كرائية مرتفعة بلغت 100 ألف درهم شهرياً. في الوقت ذاته، أُنشئت شركة جديدة تدعى “سيكوميك” بنفس المقر الاجتماعي، ما اعتُبر خطوة غير مباشرة لتفويت شركة “سيكوم” وتحويل أصولها إلى الكيان الجديد، علماً أن رأسمال “سيكوم” كان يبلغ 5.48 مليون درهم، مقابل 100 ألف درهم فقط لـ”سيكوميك”.
وفي عام 2014، باعت إدارة “سيكوم” وسائل النقل التابعة لها لصالح شركة “أ.س”، التي تعود ملكيتها للرئيس المدير العام ذاته، والتي تدير مؤسستين تعملان في مجال مماثل. واستغلت هذه الشركة الجديدة الاسم التجاري لـ”سيكوم”، كما قامت بنقل بعض المستخدمين الإداريين وعدد من العاملات دون علمهن أو توضيح قانوني، وهو ما لم يُكشف إلا في سنة 2016.
وبحسب شهادات العمال، فإن هذه الخطوات لم تكن سوى بداية لمسلسل تصفية ممنهجة للشركة الأم، عبر إغراقها في الديون البنكية، والتوقف عن دفع الأجور والحقوق الاجتماعية، بما فيها واجبات الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي. وفي الثاني من نونبر 2017، أُغلقت أبواب المعمل بشكل مفاجئ، وغاب الملاك، ليفتح ذلك مرحلة أولى من النضال استمرت إلى غاية 15 يوليوز 2018.
مع انتشار خبر الإغلاق، بادرت العاملات إلى تنظيم احتجاجات ووقفات ومسيرات أمام مقر الشركة والإدارات المختصة، ما دفع السلطات المحلية إلى التدخل بحل مؤقت، تمثل في تقديم دعم مالي بقيمة 4 ملايين درهم من المجلس الجماعي والجهة، لإعادة تشغيل المعمل. وهكذا، أُعيد فتح المصنع بشكل تدريجي اعتبارًا من 16 يوليوز 2018، واستمر في العمل حتى تم إغلاقه نهائيًا في 16 نونبر 2021.

صامدات رغم القهر”.. عاملات سيكوم “سبكوميك” بين التشريد والمعاناة
دخلت العاملات واللواتي يشكلن بفضل عددهن، الرقم الصعب في معادلة عاملات سيكوم “سيكوميك”،في فصل جديد من النضال، أبرز مظاهره الاعتصام المفتوح أمام فندق الريف بمكناس، في محاولة لاسترجاع حقوقهن وكشف حقيقة ما يعتبرنه عملية ممنهجة لتجريدهن من مصدر رزقهن.
تحكي أمينة، إحدى العاملات اللواتي التحقن بشركة سيكوميك منذ سنة 1992، قصتها بألم واضح. تقول: “اضطررت إلى إرسال ابني للعيش مع عائلتي في الدار البيضاء حتى يتكفلوا بمصاريف دراسته، لأنني لم أعد قادرة على إعالته ولا توفير حاجياته الأساسية”.
أمينة ليست وحدها. قصص الألم تتكرر مع كل عاملة. في بداية الاعتصام، واجهت المعتصمات سلسلة من الاعتداءات المتكررة من قبل أشخاص مأجورين، حاولوا طردهن من أمام المصنع. تعرضن للضرب والشتم بألفاظ نابية، ولم تسلم بعضهن من محاولات تحرش مقيتة.
تلك الاعتداءات لم تتوقف، بل امتدت لتشمل رمي الخيام ليلًا بأكياس بلاستيكية وقنينات مملوءة بالثلج، وأحيانًا بمواد حارقة، من سطح الفندق المجاور، خصوصًا في ليالي الشتاء الباردة. الهدف: ترويع المعتصمات وتخريب الخيام التي يبيتن تحتها. كل ذلك، تقول العاملات، كان يحدث على مرأى ومسمع من رجال الأمن، دون أي تدخل يُذكر، حيث تحتفظ ذاكرة العاملات بما وقع في إحدى الحوادث، لما بلغ العنف حد محاولة قتل أحد المعتصمين، حيث أصيب إصابة بليغة على مستوى الأذن والعين، وتوجد صور ميدانية توثق تلك اللحظات الدامية، والمتهمون مجهولون لكن تصرفاتهم وبلطجيتهم، كما يقول العمال المعتصمون، تفضح الجهة التي لها مصلحة في توظيف إجرامهم.
رغم القهر، لم تتوقف العاملات عن الاعتصام. تسعة أشهر من التشبث بحقوقهن في العيش الكريم، وسط الإنهاك الجسدي والنفسي. كثير منهن يقطعن يوميًا مسافات طويلة مشيًا على الأقدام، تصل أحيانًا إلى سبعة كيلومترات، فقط للوصول إلى مكان الاعتصام.
عائشة، إحدى العاملات، تقول: “30 سنة من عمري وصحتي ضاعت في المصنع. اليوم لا أملك حتى ثمن الحافلة، وأعاني من مرض في عيني يتطلب عملية لا أستطيع دفع تكلفتها”.
أما أمينة، التي تجاوزت اليوم 53 سنة، فتتذكر أول أجر تسلمته من الشركة: “100 درهم فقط، لكنني كنت فرحة جدًا، والآن بعد كل هذه السنوات، أنا مشردة في الشارع، مريضة ومهمشة”.
معاناة تتجاوز خيام المعتصم
المشهد لا يختصر فقط في الاعتصام أو الخيام، بل يعكس وجعًا صحياً ونفسياً عميقًا. بعض العاملات أُصبن بأمراض مزمنة وخطيرة: حالات سرطان، بتر أطراف، فشل كلوي، شلل نصفي… وآخرون يعانون من انهيارات عصبية واكتئاب حاد، امتدت آثاره حتى لأبنائهن.
“لا شيء نخسره.. وسنضحي من أجل كرامتنا“
يقول الحسن الحسيني وهو عامل من العمال المحتجين، “أبلغنا وزارة الداخلية بالحرف، سنة 2016، بأن أرباب العمل سيتنصلون من مسؤولياتهم، وسيُترك العمال في مواجهة السلطة، وهو ما تحقق اليوم للأسف”، مستحضرا ما حدث كما قال،”في لقاء جمعنا بوزير الشغل الحالي السنة الماضية، وبعد اطلاعه على ملفنا، قال لنا بالحرف: هذه عملية نصب واحتيال قانوني على العمال. وأكد لنا حينها أنه سيحاول إيجاد حل حتى لا تضيع حقوقنا، لكننا لا نزال ننتظر إلى اليوم”.
ويواصل الحسيني: “اليوم، أوجه رسالتي لكل المسؤولين في هذا الوطن: لقد استنفدنا جميع أشكال الاحتجاج السلمي الممكنة، ولم نتلقَّ أي استجابة جدية من الجهات المعنية، لذلك، إذا لم تتم الاستجابة لمطالبنا وتعويضنا عن حقوقنا الضائعة، فنحن مستعدون للتضحية بحياتنا مادام لم يتبقَّ لدينا شيء لنخسره”يقول لسان حال هذا العامل نيابة عن رفاقه ورفيقاته المعتصمين.
((فيديو لمعتصم عاملات وعمال سيكوميك في مكناس تم نشره على قناة”الميادين” قبل حوالي سنتين من الآن 👇))