أحيت مؤخرا أسرة ورفاق وزملاء القيادي السياسي اليساري والأستاذ المؤرخ إبراهيم ياسين، لقاء تأبينيا له بالدار البيضاء، حيث قدم خلال هذا اللقاء “كتاب الشهادات في حق الأستاذ إبراهيم ياسين ” وقد تضمن ما يزيد عن 70 شهادة في من أسماه اللقاء “حكيم اليسار “؛ و توجد ضمن هذه الشهادات، نالشاهدة التي قدمها الصحافي محمد العوني، رفيق وصديق الفقيد إبراهيم ياسين.
جدليات دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع
أدرك ابراهيم ياسين بعمق أدوار بناء البوصلة الفكرية لتفعيل الخط السياسي والخطط التنظيمية، فجادل الاستراتيجية بالتكتيك، والتفكير بالعمل، والدوائر بالمربعات، والمساحات بالعلو والامتدادات، والمسافات بالوسائل، والطرق بالمدارات، والسكك بالقطارات، فقد حدث بحسب تتبعي القابل جدا جدا للنقاش، تبارٍ غير معلن وغير مقصود في قراءة البوصلة بين الرفيقين محمد حبيب الطالب ـ نتمنى له الشفاء وطول العمرـ والرفيق الفقيد ابراهيم ياسين فكان الاجتهاد للوصول لحسن قراءة مؤشراتها، والاختلاف في بلورة أسس الخط السياسي.
وكانت عضوات وأعضاء المؤتمر الأول لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي قد تابعوا كيف اختلف ياسين مع رفاقه في القيادة، حول تدبير المرحلة. وكان المؤتمر امتدادا للندوات التي عقدتها المنظمة وكانت لها وظيفة تأسيسية، واختارت إحدى الندوات كشعار مركزي للمنظمة ” دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع “، حيث اختار ياسين بطريقته الفريدة والعجيبة ـ وليس لأول مرة ولا آخرها ـ التعبير عن رأيه وتأطير اختلافه بما لا يتيح أي إمكانية لخلطه بمعارضة للقيادة، ولا بسعيه لاستتباع المناضلين، ولا بأي منطق حلقي، وكانت في نفس الوقت الأمطار هامرة واستفهامات التنظيم والتطوير غامرة والأفكار والتصورات هادرة.
لم يكن ياسين ليعترض على الشعار المركزي وإنما على احتمال انحراف تفسيره على أن دمقرطة الدولة مشروطة بدمقرطة المجتمع ؛ علما أنه ، منذ مراجعة منظمة 23 مارس لتعبيرات فكرها السياسي وتخليصه ما أمكن من التكلس الإيديولوجي ، أحد بناة الديمقراطية كعنوان للمرحلة والدمقرطة كتجادل عميق ومجادلة مجتهدة بين مؤسسات الدولة وبنيات المجتمع ، لا يمكن القول مثلا : “دمقرطة الدولة ثم دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع “و لا “دمقرطة الدولة ثم دمقرطة المجتمع “، لأن الصيغتين لا تعكسان ميزان ذاك التجادل و تلك المجادلة ،وأصبح اختبار الجدل عينه في عناوين الفعل السياسي المقترح و أولوياته و ترتيب الأسبقيات و المجالات و الجبهات، وكان أن رمى إبراهيم ياسين بأسئلة ثقيلة على قضايا التفكير والممارسة لدى المنظمة.

و عاشت المنظمة، تفاعلا للاختلاف المستمد من الممارسة وقراءات لعناصر جديدة للواقع، إلى أن بلغ الأمر بالمنظمة موضوعيا، حيث وجدت نفس المنظمة نفسها أمام تيارين وسيدخل “على الخط ” في “وسط الطريق ” ثلاثي الرفاق مصطفى بوعزيز، مصطفى مفتاح ومحسن عيوش ليقترحوا حزب المواطنة والمواطنة الحزبية،وأطروحة التحول الديمقراطي أو الانتقال إلى الديمقراطية، وهنا يقوم كنز مكشوف على قارعة طريق اليسار، لا ينقصه إلا باحثين في السياسة وأوضاع المغرب لتحليله وتثمينه واستخلاص ما ينفع الناس والبلاد ومستقبلهما .
و مع كل ذلك كان الفقيد ابراهيم ياسين بجدلياته وحكمته يبتعد كلما أمكن عن استدامة الوقوف عند الاختلاف، إلى أن تحول هذا الاختلاف بعد تخصيبات موضوعية وذاتية، إلى بذرة خلاف مع تعديل الدستور سنة 1992، سينفجر ويتحول إلى انقسام مع تعديل الدستور ـ مرة أخرى ـ سنة 1996،وهو الخلاف الذي هم وعم جل الأحزاب والتنظيمات الديمقراطية.
وبالعودة للبوصلة التي تميز ياسين ليس فقط بتقريب مضامينها من مفردات البرنامج السياسي، بل تميز كذلك في تصميم شكلها ليلائم واقع السياسة هنا والآن، ولجعل مؤشراتها قريبة من جوهر اليسار ومن ترجمته فكريا وسياسيا، مستفيدة من تصميمها للتضاريس والاتجاهات، ونقلها من بوصلة الجغرافية إلى بوصلة التاريخ والفعل السياسي، فياسين كان ياسين ثوريا متسلحا بأدوات الإصلاح من أجل التغيير ، ومتشبثا بعمق الإصلاحات وجوهرها كمقدمة وغمرة لثورة هادئة يستحقها المغرب وتلائم اختيارات قواه الديمقراطية وحتى خطابات بعض الجهات الرسمية .
ياسين بهدوئه الثوري وفعله المتنور يعكس عمق الاقتناع بواقعية الثورة الهادئة، والحاجة للثورة الثقافية ..و بالتغيير السلمي وبالاختيار الديمقراطي والشعبي . بجملة أخرى تشبع ياسين بثورة الهدوء و هدوء الثورة وانغمربصخب التفكير وهدوء التغيير، ذلك أن الرجل نجح في سكب الهدوء والفورة في شرايين التنظيم ولم يكن ذلك بدون صدى فقد صنعت التجربة اليسارية التي ساهم فيها معنى آخر للسياسة وشكلا خلاقا للتنظيم ، وصيغا أخرى للاعلام وللعلاقة بالجماهير، وصورا بديعة للتفاعل مع المؤسسسات ومع التحولات، ولذلك وغيره ،كثيرا ما كان ابراهيم ياسين يخرج عن العادة…في التنظيم، في التحليل، في الموقف، و لم يكن ذلك من أجل التميز فهو كان عدوا للتميز من أجل التميز… إنما جعلته مثابرته واجتهاداته وعقلانيته وواقعيته ـ دائما ـ في صلب تمييز لب الأمور عن القشور وصالح الحب عن التبن…فلئن كسر مرات القاعدة فدون إغفال بناء قاعدة جديدة.
ياسين..روح اليسار
ليس هناك خاتمة مع الرفيق ابراهيم ياسين ـ على الأقل بالنسبة لي ـ فكافة الشهادات التي تقدم في حقه ، تعود بنا بالضرورة إلى مفتتح السياسة، وافتتاح النضال، وانفتاح الفعل الصادق على التفكيرالمتجدد، فكيف لا ؟ وقد كان إبراهيم ياسين سباقا في عجن الذات بالقيم والمبادئ ،لاسيما القيم التي تجسد روح اليسار : النزاهة ، التضامن ، الكرم ، الوفاء ،الصدق والمصداقية ، الشجاعة والجرأة ، التواضع والاحترام ،الانفتاح و نكران الذات ،المثابرة والاجتهاد، الإيثار والتضحية، الالتزام والاستمرارية، القناعة و”الكفاف والعفاف والغنى عن الناس”، كما جعل التعبير عن القيم والمبادئ في أبسط ما يكون ، وبأبعد نقطة في المستقبل. ولم تكن القيم تحفزه وتحرك دواخله بفعالية فقط ،، إنما كان هو أيضا منشطها بحذق وصدق ومروجها بسخاء وبهاء.
ياسين عرف عنه قيد حياته وسط أصدقائه ومعارفه، بأانه جادل الحياة بالنضال، فالنضال حياة والحياة نضال، كما لو أن الرابط بينهما تم عند ربط حبله السري لما ولد. يعيش الحياة والنضال ويعايشهما بعمق ، بالكاد تخفي زخم ذلك الجدل والمجادلة بساطته في كل شئ؛ وبالكاد تخفي مسافة ذاك العمق سلاسته في التعبير؛ وبالكاد يخفي سطوع الإنسان فيه تواضعه الصادق والناطق والمستميت، فقد جسد ياسين جزء كبيرا من النموذج والقدوة، رغم أنه بذل مجهودا خرافيا في ألا يكون مرجعا ولا نموذجا ، لاسيما أنه أقنعنا بأن النموذج ينبغي أن تجسده مجموعة وليس فردا لأننا لا نؤمن بنبوة جديدة و لا ب”زعيم” وهذه من دروس ياسين.
حينما تلتزم بعمق اليسار كما فعل إبراهيم ياسين فأنت تلتزم مع السعادة ، كان يصنع السعادة كما تصنعه من البساطة من الفكرة ومن العمل ومن أدنى شيء في الحياة و في النضال، كان يٌعدينا بسعادته الخفية كالوميض وبطريقة سرية وأساليب جد مستترة كالزهو مزاوجا للعفو، فحتى عند الفرح كان زاهدا ومتعففا ومعتدلا.
فابراهيم ياسين، كان عن جدارة السهل الممتنع في كل الجدليات والمعادلات ، إنه السهل الممتنع ليس في التعبير وحده… ولا في اتخاذ القرار والتقرير وحدهما، بل السهل المتمنع في المساهمة العضوية وفي ممارسة القيادة… وفي ربط النظرية بالممارسة، وفي ربط الذات بالجماعة، في النضال ودروسه، سهل ممتنع في الفكر والفعل، سهل ممتنع في المقام وفي المقال، وسهل ممتنع في الرفاقية والصداقة، وسهل ممتنع في التركيب والتوفيق ، وسهل ممتنع في مقاومة كل أشكال التسلط وكافة أنواع التلفيق.
هل نحن بحاجة لنسترجع خصال ومكارم الراحل ابراهيم ياسين ؟…أم علينا فقط أن نصغي السمع للخصال والمكارم والفضائل وهي تتحدث اليوم بدون مبالغة عن نفسها وأنفاسها من خلال ابراهيم و أن نٌحَيِّي ونحْيي معها لحظات من مسارات ياسين المناضل ، المكافح ، القائد، الرائد، الباحث،المؤرخ ، المفكر، المجدد، المصلح /الثوري.
فكيف تكون كلماتنا أكثر من تأبين و ذكر واستذكار للخصال العالية و القيم الغالية…وبما يلائم استرجاعا لمسار نضال صبور ومتبصر …واستحضارا لمسيرة حكيم و قدوة بدون عنوة ، وبعثا لقيم ومبادئ حبلى بالتاريخ وبالراهن وبالمستقبل…ولفعل سياسي مرتكز على التخطيط والتقيييم وعلى النقد والتفكير، وفعل سياسي منغمس في التشوف والتصوف بالمعنى الإيجابي الملتحف بالاستشراف .