أحيت مؤخرا أسرة ورفاق وزملاء القيادي السياسي اليساري والأستاذ المؤرخ إبراهيم ياسين، لقاء تأبينيا له بالدار البيضاء، حيث قدم خلال هذا اللقاء “كتاب الشهادات في حق الأستاذ إبراهيم ياسين ” وقد تضمن ما يزيد عن 70 شهادة في من أسماه اللقاء “حكيم اليسار “؛ و توجد ضمن هذه الشهادات، نالشاهدة التي قدمها الصحافي محمد العوني، رفيق وصديق الفقيد إبراهيم ياسين.
تتعدد جدليات اليسار، بتعدد أوجه الحياة ومنعرجاتها وثناياها وتضاريسها… ، وبتعدد جبهات السياسة و واجهاتها ، ومجالاتها وخفاياها ومناوراتها ومبادراتها وصراعاتها … ، وتتفاعل من جهة أخرى جدليات اليسار مع معادلات النضال من أجل الديمقراطية والتحديات التي تطرحها بصيغ متداخلة … وبالتالي فتلك الجدليات والمعادلات ـ قد ـ لا تعد ولاتحصى . ومن ثمة صعوبة تحديد ولو بعضها وتقديمها هنا حسب أهميتها في قراءة مسار المناضل القيادي الفقيد ابراهيم ياسين ؛ أما ترتيبها وقراءتها حسب أهميتها في تجربة أوتجارب اليسار فهي من المهام الجماعية التي ما أمس حاجة هذا اليسار لها ـ اليوم قبل الغد ـ تفكيرا و ممارسة .
وأقترح تجميع بعض من تلك الجدليات والمعادلات في أربع مجموعات :
جدليات: الفرد والجماعة ، الذاتي و الموضوعي ، الجسدي والروحي ، حقوق العضوية وواجباتها ، جدلية الالتزام المتجدد والعضوية الفاعلة ، مسؤولية القيادة ولوازمها ، الوعي واللاوعي ، المثالي والمادي ، جدلية روح الفلسفة وفلسفة الروح ، الموازنة بين القول والفعل …
جدليات : التنظيمي /الحزبي والسياسي ، مهام المناضل وتمفصلاتها مع أدوار الحزب والمجتمع والنخب، صناعة دينامية الجماعة بتفاعل مع حرية الابداع والاجتهاد، تغيير التنظيم وتنظيم التغيير،النظرية والتطبيق، التخطيط والتفكير، البناء والتطوير، الإصلاح والتغيير، قيادة التغيير وتغيير القيادة ،حزب المؤسسات وتدبير الاختلاف، استيعاب التراكم وجرأة التجديد، تقليص المسافة بين معطيات الواقع والتصورات عن الواقع ، الاقتصاد في الخطاب والسخاء في الفعل وعقلنته، وجدلية سياسة الأخلاق وأخلاق السياسة…
جدليات : العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في السياسة بالمغرب والمؤطرة لحقولها، عوامل التغييروحاجياته ومراحله، الديمقراطية كاختيار وكثقافة وكممارسة، دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع ، الفكر والممارسة ، سياسة الممكن و ممكنات التحول ، الواقعية دون محافظة سلبية ولا “وقوعية “، الوطن والشعب واليسار والفعل والتغيير، وحدة الوطن ومقاومة الاستبداد ومحاربة الفساد، مقاومة تطرفات التفكير والفعل اليساريين لاسيما منها اليقينية والتجريبية والسطحية والميكانيكية والتبريرية …
جدليات : العلمي والسياسي، الاستقلالية الأكاديمية والتحكم السلطوي…، السياسي و التاريخي ،المنهجية والاجتهاد ، الاطروحة والتركيب والتراكم ،وجدلية التحليل الملموس للواقع الملموس والمحسوس …
هذه نماذج لجدليات خاضها أو فعل فيها الراحل ابراهيم ياسين ، مما يعني أن هذا القائد السياسي اليساري والأستاذ الباحث والمؤرخ، والإنسان الفاعل والمجتهد يستحيل على أي واحدة أو واحد منا أن يحيط بزخم عطائه ،و بكافة مقومات شخصيته المتعددة المدارات والإنجازات ومساراته ومسيرته المتنوعة الجبهات.
فحياته ـ ككل الكباركانت ولازالت ـ من خلال آثاره ومأثوراته ، كتابا مفتوحا ، شاسعا بلاحدود ؛ غير قابل للقبض على كافة تفاصيل سطوره ومابين سطوره.
ولذلك سأختار ثلاث جدليات و معادلات ، من هاته المجموعات ، في دعوة لروح الرفيق الفقيد الكبير ابراهيم ياسين لعلها ترفرف على تفكيرنا وتكون نجمة مضيئة للفعل السياسي اليساري :

جدليات الفرد والجماعة والذاتي والموضوعي:
اشتغل الفقيد ياسين ـ دون إبراز ذلك كما هي عادته ـ على معرفة حدود الفرد وفعله وفعاليته مهما كان بعد نظره وديناميته الحاذقة وتفكيره الثاقب، وتمرس على إدراك حدود الذات وعدم تمكنها في أي حال من الأحوال من تجاوز قدراتها؛ وفي نفس الوقت عمل ياسين على استخراج أقصى ما يمكن من الذات/ ذاته، لاسيما وأن كل مساره التزام بالمسؤولية وعمل متكامل الأركان ومتواصل الانتظام من أجل الفعل والمهام …
ورغم تمكن أمراض مزمنة من جسده ، خلال فترة المهام الأخيرة وابتعاده عن مواقع المسؤولية بما فيها حتى العضوية بالمجلس الوطني للحزب، فقد كان حريصا ـ وهو يقاوم بصمود تلك الأمراض كما يقاوم دائما ـ على استخراج ما يمكن من ذاته لصالح القضايا المرتبطة بهذه المهام ، وقد اتضح للكثيرين داخل الحزب وخارجه ذلك، خاصة خلال حركة 20 فبراير، ودعم حراك الريف، ودون التخلي عن إدمانه المستمرعلى الابتعاد عن الأضواء…
لم يكن ممارسا بارعا لنكران الذات فقط ، بل لو كان لنكران الذات اسم آخر أو لقب لكان هو إبراهيم ياسين ، من ثمة تواضعه الجم والصادق والفريد ، الناجم عن اجتثاثه لجذور الذاتية وتفكيكه لأي “اعتداد بالنفس “، لعله كان كل يوم يكسر بذور ونوازع النرجسية على مرايا الواقعية و العقلانية و الديمقراطية والجدية ….
فرض معايير صارمة على نفسه… مع الوعي بأنه لا يمكن أن يطبقها على الآخرين خشية أن يكون ذلك إسقاطا منه عليهم، فالمسألة تحتاج لوقت و جهد و قطائع لتتحقق لدى من يحب وضمنهم رفيقاته ورفاقه … فهل هناك واقعية أكبر من هذه و هل هناك ممارسة لجدلية الذات والجماعة مثل هاته …
كان يعطي بدون حساب أو اقتصاد من جسده ، من جهده ، من فكره ، من عقله ، من روحه ؛ و روحه كانت شاسعة رائعة وفارعة …و فكره كان شاهقا، ناطقا ، سائقا، فائقا ، لائقا وبريقا بارقا…و عقله كان منيرا ، سميرا ، ساهرا، غامرا وعامرا…
انطلاقا من هذا ” الذاتي و الجماعي ” ربط علاقات صداقة قوية مع العديد من رفاقه … فالرفاقية العميقة هي أكثر من صداقة رائقة وصادقة، وحسب مايبدو فذلك ما يفسر أن صداقات ياسين خارج الرفاق والزملاء ربما نادرة… فقد كان صديق خفيف الظل للكثير ممن يناضل معهم أو يعمل معهم وهاته جدلية أخرى من جدليات ياسين … الرفقة و الصداقة بكل ما تعنيه الأولى من واجبات والثانية من قرب واهتمام بالاجتماعي و تنفيس عن متاعب العمل و الاجهاد و ضيق النفس سواء كانت مرتبطة بثقل الواقع و صعوباته الكبرى أو بغيره ؛ إنما دون أن تكون على حساب أشخاص آخرين .
وتوحي سيرته ومسيرته لكل متتبع لبيداغوجيته السلوكية و مسالك بيداغوجيته تكثيفها لخلاصة مفادها: لئن كنت لطيفا خفيفا ، رائقا ، مبتسم الوجه والشفاه ، دافئ العينين ، بشوش المحيا ، باسم الروح ، فلا تكن ” لينا فتعصر ولا صلبا فتكسر “…
أما صعوبات الطريق السياسي ، كما الانتصارات والعثرات والخسارات بأبعادها وأسسها النضالية وبعمقيها السياسي والفكري فأجدر بها ـ حسب منطق ابراهيم ياسين ـ أن تخلصنا من الأوهام ومن النقص في الحساب والخصاص في التقدير، وتذكرنا وتجدد تنبيهنا لفساد فكرة ـ قبل نزوع ـ “القائد الملهم “…
لا أعرف كثيرا من المناضلين و القياديين السياسيين الذين يعرض عليهم موقع الأمانة العامة فيحجمون ، بل كان أكثر من عرض كان “تحميلا للواجب ، و للمسؤولية “… إلا أنه لم يكن يحتاج ليثبت تحليه بكافة المسؤوليات فسيرته شاهدة و رائدة ،ولعله قرر دخول أول مكتب سياسي منبثق عن أول مجلس وطني لحزب اليسار الاشتراكي الموحد، فقط ، ليقترح صيغة “أمانة عامة جماعية ” لاختبار مدى استيعاب ضرورة وحاجة اليسار والحزب للقيادة الجماعية التي لايمكن أن يعوضها أي قيادي أو زعيم مهما كان الإجماع حوله ومهما كان وزنه وحذاقته …. علما أن إبراهيم ياسين كان أحد كبار مهندسي بناء الحزب الموحد وتوحيده وتجميع مكوناته ،إلم يكن أكبر مهندسيه ، و كان يعرف أن هناك نوعا من الطلب السري على “تعليقه الجرس ” قبل المطلب المعمم والعام في هذا الاتجاه …بينما هو قرر منذ نعومة نضاله ألا “يعتلي “أبدا صفة الزعيم أو موقع “القائد العام” …
… و فيما بعد سيبتعد عن” المركز” المتحصن في البيضاء والرباط ويضطر للانتقال مهنيا إلى مراكش رغم كلفة ذلك المادية و الأسرية… ليتأكد الجميع من مسافاته وجذوة قراره بألا يقع في “سياسة المركز ” ولا يستمر في “مركز السياسة “؛ علما أنه ناضل دوما على أن تكون المواطنة والمواطن والمناضلة والمناضل هما مركز القرار، والجهوية “التقدمية ” إحدى أدوات الانتقال الديمقراطي من جهة والديمقراطية الداخلية للحزب من جهة أخرى…
يقال” من سبق فعله قوله فقد حقق صدقه ” و مع ياسين يمكن القول : من تحقق صدقه فقد رحُبت به سبل الالتزام وانحنت له جبال الاحترام واتسعت له ينابيع الوئام …
جدليات قيادة التغيير وتغيير القيادة:
أبدع ياسين في قيادة التغيير كمشروع وبرنامج بواسطة الجدليات إياها ، وبرع في مقترحات تغيير القيادة ليس كأناس بل كفكروتفكير وتأمل وتمحيص وكعمل ومسؤولية وتكليف، مما كان يفرض عليه في الكثير من الأحيان إكراهات ومخيال الإقدام و تحديات و فن الإحجام …
كانت مهامه ـ سواء اقترحها أو اقترحت عليه ـ مفصلية وذات أهمية في الأغلب، علما أنه لم يكن ليتوانى عن “المهام الصغيرة واليومية”، إذ انخرط بقوة على سبيل المثال في :
.. بناء اليسار الجديد وفي مواجهة محاولة الاجتثاث ومقاومة القمع المسلطين على تنظيماته .
.. المراجعة النقدية للفكر اليساري ولممارساته …
.. الانتقال من العمل السري باكراهاته وتعقيداته الى النضال العلني بسلبياته وايجابياته …
.. تأهيل العمل الحقوقي نحو ما يكفي من الاستقلالية والديمقراطية والتعددية …
.. غرس العمل النقابي في التعليم العالي و تفعيله…
.. بناء جبهة المعارضة الوطنية لاسيما عبر الكتلة الديمقراطية …
.. تطوير أداء إعلام منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لاسيما جريدة أنوال…
.. التأطير الفكري للنقاش الداخلي للمنظمة ومع محيطها بشأن “الإصلاح الديمقراطي ” وسبله وآفاقه …
.. دعم القضايا العربية والعالمية العادلة ، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية …
.. توسيع وتقوية المنظمة بعد انقسام 1996 …
.. تأهيل وعقلنة العمل التنظيمي للمنظمة …
.. الاجتهاد في البحث التاريخي وتطوير العمل الأكاديمي الجماعي…
.. التركيز على مطلب “الدستور الديمقراطي ” والاشتغال عليه مبنى ومعنى…
.. إعادة إطلاق النقاش والحوار بين تنظيمات ومجموعات اليسار الجديد وصولا إلى ” تجمع اليسار “…
.. الحوار بين الفعاليات التقدمية و الإسلاميين الديمقراطيين والسعي للاشتغال المشترك بما فيه تجربة القطب الديمقراطي
“مجموعة الميدان “…
.. بناء وحدة مكونات اليسار الديمقراطي عبر محطتي حزب اليسار الاشتراكي الموحد ثم الاشتراكي الموحد …
.. تأسيس تحالف اليسارالديمقراطي ثم فيدرالية اليسار الديمقراطي…
.. دعم حركة 20 فبراير والتعبئة لاستمراريتها وتقوية فعلها…
.. دعم” حراك الريف ” ومواجهة قمعه و الانقلاب عليه …
كل عنوان من هاته العناوين يحتاج ـ على الأقل ـ فصلا للوقوف عند عطاء ياسين و مجادلته ومقارعته للقيادة بالتغيير من ناحية ،و تفعيل جدلية قيادة التغيير وتغيير القيادة من ناحية أخرى، حيث يقتنع ياسين ـ فقط ـ بما نستطيع تحقيقه في سياق سياسة فن الممكن ، كل الممكن …و ليس ربعه ولا حتى نصفه ، … يحرك المجموعة بتحفيز من إنصاته المعتبر ومن إعداده المستمر وتحضيره المنتظم للقراءات ،للمقترحات و للمبادرات مع تلافي أي شكل للاملاء والأستاذية وحتى للتوجيه والتنبيه ، ليلتحم كل ذلك بما يريد كل واحد ضمن المجموعة التي تلهم نفسها بالإجابة المستنتجة من الأسئلة المشتركة .