قبيل كل انتخابات يعاد النقاش، الموسمي، حول علاقة السياسي مع النقابي، والسياسي مع المدني، والسياسي والمدني والنقابي مع الدولة، كما تشكل مفاهيم المسؤولية والثقة والمصداقية والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة والحرية والمقاطعة والتصويت والريع، مواضيع ساخنة في الواقع وشبكات التواصل الاجتماعي..
نقاش لا يمكن خوضه دون تأصيل فلسفي وسوسيولوجي وسياسي، يرصد مفصلات المفاهيم ويستحضر سياقاتها النظرية والموضوعية لبناء مواقف دقيقة. ويسائل المشتغلين في العلوم الإنسانية والنخبة المثقفة وتصوراتهم تجاه القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
لكن هل سياقنا محكوم بالكاسطا السياسية؟
وهل الانتخابات آلية لتكريس الديمقراطية؟ أم أنها وسيلة لإعادة إنتاج الوضع القائم بتراتبياته وتفاوتاته؟ وبأي معنى تسهم الانتخابات في التغيير الاجتماعي؟ أم أنها لا تحيد، في سياقنا المغربي، عن كونها تكريسا للتقليد وتثبيثا للنخب التقليدية؟
السياسة، على المستوى الماكروسكوبي، علم وتدبير وإدارة الشؤون العامة للأفراد والجماعات بغاية تحقيق الخير العام والسعادة العظمى لها، ذلك عبر كيانات سياسية تسمى أحزابا، بما هي تنظيمات تحكمها مواثيق وقوانين متفق عليها بين مجموعة الأفراد الذين يتقاسمون جملة المبادئ والمنطلقات والغايات والمرامي التي يسعى إلى تحقيقها هؤلاء بوسائل وأنشطة وأفعال محددة في المكان والزمان، يتعلق الأمر بحكم الأشياء وإدارة الناس كما أشار يوما سان سيمون. ولا يتحقق ذلك إلا في إطار الدولة الحديثة كما نظَّر لها فلاسفة العقد الاجتماعي، باعتباره اتفاقا إراديا وحرا بين مجموعة الأفراد حول جملة القوانين والتشريعات والضوابط التي من خلالها ينظم هؤلاء الأفراد حياتهم.
هاجس الفاعلين في تلك التنظيمات، كسب ثقة المواطنين عبر تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية من حال إلى حال؛ من حال فيه اختلالات وأعطاب ونواقص، إلى حال يرونه أفضل للمجتمع، تنتفي فيه تلك الاختلالات أو على الأقل يتم الحد منها، بخطوات مدروسة في المكان والزمان، تتفاعل فيها الموارد البشرية مع الموارد المادية والرمزية، وفق رؤية استراتيجية ونافذة ترتكز على بعد النظر على حد تعبير السوسيولووجي ماكس فيبر.
ومن منظور واقعي، السياسة مجال للصراع من أجل تحقيق المصالح وترصيد الحقوق والمكتسبات والحفاظ عليها والسعي نحو توسيع نطاقها، صراع يتخذ عديد المظاهر، من حركات احتجاجية أو انتفاضات شعبية أو تعبيرات تطال كل مناحي الجسم الاجتماعي وأبعاده ومكوناته. والانتخابات آلية لتحقيق تلك الغايات في سياق ديمقراطي يتميز بالعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة؛ فهي تعبير عن الاختيار الواعي للفاعل، حزبا كان أم نقابة أم تنظيما مدنيا، الذي من شأنه لعب هذا الدور وتلك الوظيفة، بعيدا عن منطق الغنيمة والمصالح الشخصية والرشوة وشراء الذمم وكل أشكال الريع والفساد والولاءات القبلية أو التدينية أو اللغوية أو العرقية أو غيرها.
وما وقع في السياق الأخير، في نتائج انتخاب اللجن المتساوية الأعضاء في قطاع التربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي بكل فئاته، يوضح فكرة أساسية؛ وهي تجديد الثقة في النقابات التي حاولت تحصين حقوق الشغيلة ومعاقبة الأطراف التي أسهمت في تأزيم أوضاعها.:المصالح المادية والحريات النقابية ( اقتطاعات أيام الإضراب والزيادة في سن التقاعد وسن التعاقد أو العمل بالعقدة في مجال التربية والتكوين، وغيرها). كما يوضح أن الوعي السياسي اليقظ شرط أساسي في العملية الانتخابية التي هي في جوهرها عملية اختيارية تنبني على المصلحة العامة التي تؤسس للعيش المشترك.
هل ينسحب هذا الإجراء والتصويت العقابي على المشهد السياسي والحزبي، وما يعرفه من استحقاقات انتخابية في الشهور القليلة المقبلة؟ هل الكتلة الناخبة، على الأقل الناخبة، قادرة على استخلاص الدروس من التجارب السابقة أم أنها ستظل رهينة بالآليات التقليدانية لحظة التصويت؟ بأي خطاب يمكنها إقناع الشباب والمرأة في المشاركة السياسية في ظل سياق ضبابي يسوده التشكيك في المؤسسات وضعف الثقة فيها ومقاطعتها حتى.